فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{لبدا} بالتشديد: يزيد {فك رقبة أو إطعام} على صيغة الفعلين ونصب {رقية} ابن كثير وأبو عمرو وعليّ. الباقون: على المصدرين فأضافوا الأول ونونوا الثاني أي هي الفك أو الإطعام {مؤصدة} بالهمز: أبو عمرو ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل.

.الوقوف:

{البلد} o لا {البلد} o ك {ولد} o ك {كبد} o ط {أحد} م o لئلا يوهم أن ما بعده صفة {لبدا} ط {أحد} o ك {عينين} o لا {وشفتين} o ك {النجدين} ج o للنفي مع الفاء {العقبة} o ز {العقبة} o ط {رقبة} o لا {مسغبة} o ط {مقربة} o ك {متربة} o ط لأن {ثم} لترتيب الأخبار {بالمرحمة} o ك {الميمنة} o ط {المشأمة} o ط {مؤصدة} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1)}
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة، واعلم أن فضل مكة معروف، فإن الله تعالى جعلها حرماً آمناً، فقال في المسجد الذي فيها {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} [آل عمران: 97] وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب، فقال: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وشرف مقام إبراهيم بقوله: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} [البقرة: 125] وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وقال في البيت: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة 125] وقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت يت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً} [الحج: 26] وقال: {وعلى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ} [الحج: 27] وحرم فيه الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الدنيا من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها، فأما قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} فالمراد منه أمور أحدها: وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها.
وثانيها: الحل بمعنى الحلال، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك، عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له.
وثالثها: قال قتادة: {وَأَنتَ حِلٌّ} أي لست بآثم، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء، فقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان، ثم قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد». فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال: «إلا الإذخر».
فإن قيل: هذه السورة مكية، وقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟.
قلنا: قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ} [الزمر: 30] وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهذا من الله أحسن، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله، وتكذيب الرسل وخامسها: أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد، ثم قال: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ في الاميين رَسُولاً مّنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} [يونس: 16] فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه من هذا البلد.
أما قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا ولد} فاعلم أن هذا معطوف على قوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} وقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، وللمفسرين فيه وجوه:
أحدها: الولد آدم وما ولد ذريته، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} [الإسراء: 70] فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب، وقيل: هو قسم بآدم والصالحين من أولاده، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم.
كما قال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18].
وثانيها: أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب، وإنما قال: {وَمَا ولد} ولم يقل ومن ولد، للفائدة الموجودة في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن.
وثالثها: الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم.
فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين، وإنما قلنا: إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال: «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» وهم المؤمنين ورابعها: روي عن ابن عباس أنه قال: الوالد الذي يلد، وما ولد الذي لا يلد، فما هاهنا يكون للنفي، وعلى هذا لابد عن إضمار الموصول أي ووالد، والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها: يعني كل والد ومولود، وهذا مناسب، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام.
وأما قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الكبد وجوه:
أحدها: قال صاحب (الكشاف): إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده، وقال آخرون: الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد، ثم اشتقت منه الشدة.
وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ، ثم اشتق منه اسم العضو.
الوجه الثاني: أن الكبد هو الاستواء والاستقامة.
الوجه الثالث: أن الكبد شدة الخلق والقوة، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط، وأن يكون المراد كل ذلك.
أما الأول: فقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة، تارة في بطن الأم، ثم زمان الإرضاع، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش، ثم بعد ذلك الموت.
وأما الثاني: وهو الكبد في الدين، فقال الحسن: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، ويكابد المحن في أداء العبادات.
وأما الثالث: وهو الآخرة، فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار.
وأما الرابع: وهو يكون اللفظ محمولاً على الكل فهو الحق، وعندي فيه وجه آخر، وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة ألبتة، بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع، وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للإنسان، إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر، فهذا معنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} ويظهر منه أنه لابد للإنسان من البعث والقيامة، لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم، فهذا لا يليق بالرحمة، وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ، ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب، وإن كان مطلوبه أن يلتذ، فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة، وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة، فإذا لابد بعد هذه الدار من دار أخرى، لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات.
وأما على.
الوجه الثاني: وهو أن يفسر الكبد بالاستواء، فقال ابن عباس: في كبد، أي قائماً منتصباً، والحيوانات الآخر تمشي منكسة، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة.
وأما على.
الوجه الثالث: وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة، فقد قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد، وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي، فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه، واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول.
المسألة الثانية:
حرف في واللام متقاربان، تقول: إنما أنت للعناء والنصب، وإنما أنت في العناء والنصب، وفيه وجه آخر وهو أن قوله: {فِى كبد} يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف، وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة.
المسألة الثالثة:
منهم من قال: المراد بالإنسان إنسان معين، وهو الذي وصفناه بالقوة، والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل.
{أيحسب أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد (5)}:
اعلم أنا إن فسرنا الكبد بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرنا المحنة والبلاء كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟ ثم اختلفوا فقال: بعضهم لن يقدر على بعثه ومجازاته فكأنه خطاب مع من أنكر البعث، وقال آخرون: المراد لن يقدر على تغيير أحواله ظناً منه أنه قوي على الأمور لا يدافع عن مراده، وقوله: {أيحسب} استفهام على سبيل الإنكار.
{يَقول أَهْلَكْتُ مَالًا لبدا (6)}
قال أبو عبيدة: لبد، فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الزجاج: فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم، قال الفراء: واحدته لبدة ولبد جمع وجعله بعضهم واحدًا، ونظيره قسم وحطم وهو في الوجهين جميعاً الكثير، قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته.
وقد ذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لبدا} [الجن: 19] والمعنى أن هذا الكافر يقول: أهلكت في عداوة محمد مالاً كثيراً، والمراد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر.
{أيحسب أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد (7)}:
فيه وجهان الأول: قال قتادة: أيظن أن الله لم يره ولم يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه الثاني: قال الكلبي: كان كاذباً لم ينفق شيئاً، فقال الله تعالى: أيظن أن الله تعالى ما رآى ذلك منه، فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق، بل رآه وعلم منه خلاف ما قال. اهـ.

.قال القرطبي:

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1)}
يجوز أن تكون (لا) زائدة؛ كما تقدّم في {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1]؛ قاله الأخفش.
أي أقسم؛ لأنه قال: {بهذا البلد} وقد أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3] فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به.
قال الشاعر:
تَذَكَّرتُ ليلى فاعترتني صَبابة ** وكاد صمِيم القلبِ لا يتَقطَّع

أي يتقطع، ودخل حرف (لا) صلة؛ ومنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] بدليل قوله تعالى في (ص): {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75].
وقرأ الحسن والأعمش وابن كثِير {لأُقْسِم} من غير ألف بعد اللام إثباتاً.
وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى (ألا).
وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، ولا والله لأَفْعَلَنّ كذا.
وقيل: هي نفي صحيح؛ والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه.
حكاه مكيّ.
ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (لا) ردٌّ عليهم.
وهذا اختيار ابن العربيّ؛ لأنه قال: وأما من قال إنها ردّ، فهو قول ليس له ردّ؛ لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد.
فهو ردّ لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيرِيّ: قوله (لا): ردّ لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا.
أي ليس الأمر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم.
و{البلد}: هي مكة، أجمعوا عليه.
أي أُقسِم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك على وحبي لك.
وقال الواسطيّ أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حياً، وبركتك ميتاً؛ يعني المدينة.
والأوّل أصح؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق.
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد (2)}:
يعني في المستقبل؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30].
ومثله واسع في كلام العرب.
تقول لمن تَعِدُه الإكرامَ والحِباء: أنت مُكرمٌ مَحْبُو.
وهو في كلام الله واسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة؛ وكفاك دليلاً قاطعا على أنَّه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبلَ الفتح.
فروى منصور عن مجاهد: {وأَنتَ حِلٌّ} قال: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حِلّ.
وكذا قال ابن عباس: أُحِلّ له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خَطَل ومِقْيس بن صُبَابة وغيرهما. ولم يَحِلَّ لأحد من الناس أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى السُّدّي قال: أنت في حِلٍّ ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أُحِلِّت له ساعة من نهار، ثم أُطبِقت وحرّمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة.
وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم مكة يوم خَلَق السمواتِ والأرضَ، فهي حَرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تَحِلّ لأحد قبلي، ولا تَحِلّ لأحد بعدي، ولم تحِلَّ لي إلاّ ساعةً من نهار» الحديث.وقد تقدم في سورة (المائدة).
ابن زيد: لم يكن بها أحد حَلالاً غيرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: وأنت مُقِيم فيه وهو محلك.
وقيل: وأنت فيه محْسن، وأنا عنك فيه راضٍ.
وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حِلٌّ وحَلال ومُحِلّ، ورجل حَرامٌ ومُحِل، ورجل حَرَام ومُحْرِم.
وقال قتادة: أنت حِلٌّ به: لست بآثم.
وقيل: هو ثناء على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يَحرُم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت؛ لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.
أي أقسِم بهذا البيت المعظم الذي قد عَرفتَ حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرُم عليك.
وقال شُرَحْبِيل بن سعد: {وأنت حل بهذا البلد} أي حلال؛ أي هم يحرّمُون مكة أن يقتلوا بها صيداً أو يَعضِدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.
{وَوَالِدٍ وَمَا ولد (3)}
قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: {وَوَالِدٍ} آدم: عليه السلام.
{وَمَا ولد} أي وما نَسَل من ولده.
أقسم بهم لأنهم أَعجبُ ما خلق الله تعالى على وجه الأرض؛ لما فيهم من التِّبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدُّعاة إلى الله تعالى.
وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذُرّيته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم.
وقيل: الوالد إبراهيم. {وما ولد}: ذرِّيته؛ قاله أبو عمران الجَونِيّ: ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته.
ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته.
قال الفرّاء: وصَلحَتْ (ما) للناس؛ كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وكقوله: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: (ما) مع ما بعدها في موضع المصدر؛ أي ووالد ووِلادته؛ كقوله تعالى: {والسماء وَمَا بناها} [الشمس: 5] وقال عكرمة وسعيد بن جُبير: {وَوَالِدٍ} يعني الذي يولد له.
{وَمَا ولد} يعني العاقر الذي لا يُولد له؛ وقاله ابن عباس. و(ما) على هذا نفي.
وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول؛ أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين.
وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود؛ قاله عطية العَوفي.
ورُوِي معناه عن ابن عباس أيضاً.
وهو اختيار الطبريّ.
قال الماورديّ: ويحتمل أن الوالد النبيّ صلى الله عليه وسلم، لتقدّم ذكره، وما ولد أمّته: لقوله عليه السلام: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم» فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده؛ مبالغة في تشريفه عليه السلام.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كبد (4)}:
إلى هنا انتهى القَسَم؛ وهذا جوابه.
ولله أن يُقْسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم.
والإنسان هنا ابن آدم.
{فِي كبد} أي في شدّة وعناء من مكابدة الدنيا.
وأصل الكبد الشدّة.
ومنه تَكبد اللبن: غلُظ وخَثُر واشتدّ.
ومنه الكبد؛ لأنه دم تغلّظ واشتدّ.
ويقال: كابدت هذا الأَمر: قاسيت شدّته.
قال لَبيد:
يا عينُ هلاَّ بكيتِ أربدَ إذْ ** قُمْنا وقام الخصومُ في كبد

قال ابن عباس والحسن: {في كبد} أي في شدّة ونَصَب.
وعن ابن عباس أيضاً: في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونَبْت أسنانه، وغير ذلك من أحواله.
وروى عكرمة عنه قال: منتصباً في بطن أمّه.
والكبد: الاستواء والاستقامة.
فهذا امتنان عليه في الخلقة.
ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكَبة على وجْهها إلا ابن آدم، فإنه منتصِب انتصاباً؛ وهو قول النَخعِيّ ومجاهد وغيرهما.
ابن كيسان: منتصباً رأسُه في بطن أمه؛ فإذا أَذِن الله أن يخرج من بطن أمه قَلَبَ رأسَه إلى رجلي أمّه.
وقال الحسن: يُكابِد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
وعنه أيضاً: يكابد الشكر على السَّرَّاء ويكابد الصبرَ على الضَّرَّاء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما.
ورواه ابن عمر، وقال يَمانٌ: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم؛ وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال عُلماؤنا: أوّل ما يكابد قطع سُرَّته، ثم إذا قُمِط قِماطاً، وشَدَّ رِباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرّك لسانه، ثم يكابد الفِطام، الذي هو أشدّ من اللِّطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المُعَلِّم وصَولَته، والمؤدّب وسياسته، والأستاذ وهَيبته، ثم يكابد شغل التَّزْويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شُغْل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكِبَرَ والهَرَم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادُها، ونوائب يطول إيرادُها، من صُداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغَمَّ الدَّين، ووجع السنّ، وألم الأذن.
ويكابِد مِحَناً في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلاّ يقاسي فيه شدّة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة المَلَك، وضَغْطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كبد}، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد.
ودلّ هذا على أن له خالقاً دَبَّره، وقضى عليه بهذه الأَحوال؛ فليمتثل أمره.
وقال ابن زيد: الإنسان هنا آدم.
وقوله: {فِي كبد} أي في وسط السماء.
وقال الكَلْبِيّ: إن هذا نزل في رجل من بني جُمَحَ؛ كان يقال له أَبُو الأشدين، وكان يأخذ الأديم العُكاظِيّ فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا.
فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه؛ وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل {أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} يعني: لقوّته.
ورُوي عن ابن عباس.
{فِي كبد} أي شديداً، يعني شديد الخَلق؛ وكان من أشدّ رجال قريش.
وكذلك رُكانة بن هاشم بن عبد المطلب، وكان مثلاً في البأس والشدّة.
وقيل: {فِي كبد} أي جريء القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خِلقته، ومهانة مادّته.
ابن عطاء: في ظلمة وجهل.
الترمِذِيّ: مُضِيعاً ما يَعْنِيه، مشتغِلاً بما لا يعنيه.
قوله تعالى: {أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد}
أي أيظنّ ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل.
{يَقول أَهْلَكْتُ} أي أنفقت.
{مَالاً لبدا} أي كثيراً مجتمعاً.
{أيحسب} أي أيظنّ.
{أَن لَّمْ يَرَهُ} أي أن لم يعاينه {أحد} بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذباً في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه.
وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال م إذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزَكَّيته.
فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سَخِيّ، فقد قيل ذلك.
ثم يؤمر به إلى النار.
وعن سعيد عن قتادة: إنك مسؤول عن مالِكَ من أينَ جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الأَشدَّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً وهو في ذلك كاذب.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر.
فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد.
وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً عليه، فيكون ندماً منه.
وقرأ أبو جعفر {مالاً لبدا} بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لابد؛ مثل راكع وركَّع، وساجد وسُجّد، وشاهد وشُهَّد، ونحوه.
وقرأ مجاهد وحُمَيد بضمّ الباء واللام مخففاً، جمع لُبود.
الباقون بضمّ اللام وكسرها وفتح الباء مخففاً، جمع لَبْدَة ولبدة، وهو ما تلبد؛ يريد الكثرة.
وقد مضى في سورة (الجن) القول فيه.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ: {أيحسب} بضم السين في الموضعين.
وقال الحسن: يقول أتلفت مالاً كثيراً، فمن يحاسبني به؛ دعني أَحْسُبه.
ألم يعلم أن الله قادر على مُحاسبته، وأن الله عز وجل يرى صنيعه. اهـ.